غير هذا الموضع.
فما أخرجه دليل خاص خرج من العموم، وما لم يخرجه دليل خاص بقي داخلًا في العموم. كما تقرر في الأصول.
وأجاب المانعون بأن هذا التخصيص يبطل حكمة العام. لأن الله جل وعلا تمدح بكمال الإنصاف. وأنه لا يعذب حتى يقطع حجة المعذب بإنذار الرسل في دار الدنيا، وأشار لأن ذلك الإنصاف الكامل، والإعذار الذي هو قطع العذر علة لعدم التعذيب. فلو عذب إنسانًا واحدًا من غير إنذار لاختلت تلك الحكمة التي تمدح الله بها، ولثبتت لذلك الإنسان الحجة التي أرسل الله الرسل لقطعها. كما بينه بقوله: {رُّسُلاً مُّبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللّهُ عَزِيزاً حَكِيماً}، وقوله: {وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْنَاهُم بِعَذَابٍ مِّن قَبْلِهِ لَقَالُوا رَبَّنَا لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ مِن قَبْلِ أَن نَّذِلَّ وَنَخْزَى} كما تقدم إيضاحه.
وأجاب المخالفون عن هذا ـ بأنه لو سلم أن عدم الإنذار في دار الدنيا علة لعدم التعذيب في الآخرة، وحصلت علة الحكم التي هي عدم الإنذار في الدنيا، مع فقد الحكم الذي هو عدم التعذيب في الآخرة للنص في الأحاديث على التعذيب فيها. فإن وجود علة الحكم مع فقد الحكم المسمى في اصطلاح أهل الأصول. بـ "النقض" تخصيص للعلة، بمعنى أنه قصر لها على بعض أفراد معلولها بدليل خارج كتخصيص العام. أي قصره على بعض أفراده بدليل. والخلاف في النقض هل هو إبطال للعلة، أو تخصيص لها معروف في الأصول، وعقد الأقول في ذلك صاحب "مراقي السعود" بقوله في مبحث القوادح: منها وجود الوصف دون الحكم سماه بالنقض وعاة العلم
والأكثرون عندهم لا يقدح بل هو تخصيص وذا مصحح
وقد روي عن مالك تخصيص إن يك الاستنباط لا التنصيص
وعكس هذا قد رآه البعض ومنتقى ذي الاختصار النقض
إن لم تكن منصوصة بظاهر وليس فيما استنبطت بضائر
إن جا لفقد الشرط أو لما منع والوفق في مثل العرايا قد وقع
فقد أشار في الأبيات إلى خمسة أقوال في النقض: هل هو تخصيص، أو إبطال للعلة، مع التفاصيل التي ذكرها في الأقوال المذكورة.
واختار بعض المحققين من أهل الأصول: أن تخلف الحكم عن الوصف إن كان لأجل مانع منع من تأثير العلة، أو لفقد شرط تأثيرها فهو تخصيص للعلة، وإلا فهو نقض وإبطال لها. فالقتل العمد العدوان علة لوجوب القصاص إجماعًا.
فإذا وجد هذا الوصف المركب الذي هو القتل العمد العدوان، ولم يوجد الحكم الذي هو القصاص في قتل الوالد ولده لكون الأبوة مانعًا من تأثير العلة في الحكم ـ فلا يقال هذه العلة منقوضة. لتخلف الحكم عنها في هذه الصورة، بل هي علة منع من تأثيرها مانع. فيخصص تأثيرها بما لم يمنع منه مانع.
وكذلك من زوج أمته من رجل، وغره فزعم له أنها حرة فولد منها. فإن الولد يكون حرًا، مع أن رق الأم علة لرق الولد إجماعًا. لأن كل ذات رحم فولدها بمنزلتها. لأن الغرور مانع منع من تأثير العلة التي هي رق الأم في الحكم الذي هو رق الولد.
وكذلك الزنى: فإنه علم للرجم إجماعًا.
فإذا تخلف شرط تأثير هذه العلة التي هي الزنى في هذا الحكم الذي هي الرجم، ونعني بذلك الشرط الإحصان. فلا يقال إنها علة منقوضة، بل هي علة تخلف شرط تأثيرها. وأمثال هذا كثيرة جدًا. هكذا قاله بعض المحققين.
قال مقيده عفا الله عنه: الذي يظهر: أن آية "الحشر" دليل على أن النقض تخصيص للعلة مطلقًا، والله تعالى أعلم. ونعني بآية "الحشر" قوله تعالى في بني النضير: {وَلَوْلَا أَن كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْجَلَاء لَعَذَّبَهُمْ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابُ النَّارِ}.
ثم بين جل وعلا علة هذا العقاب بقوله: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ}. وقد يوجد بعض من شاق الله ورسوله، ولم يعذب بمثل العذاب الذي عذب به بنو النضير، مع الاشتراك في العلة التي هي مشاقة الله ورسوله.
فدل ذلك على أن تخلف الحكم عن العلة في بعض الصور تخصيص للعلة لا نقض لها. والعلم عند الله تعالى.
أما مثل بيع التمر اليابس بالرطب في مسألة بيع العرايا فهو تخصيص للعلة إجماعًا لا نقض لها. كما أشار له في الأبيات بقوله: * والوفق في مثل العرايا قد وقع *
قال مقيده عفا الله عنه: الظاهر أن التحقيق في هذه المسألة التي هي: هل يعذر المشركون بالفترة أو لا؟ هو أنهم معذورون بالفترة في الدنيا، وأن الله يوم القيامة يمتحنهم بنار يأمرهم باقتحامها. فمن اقتحمها دخل الجنة وهو الذي كان يصدق الرسل لو جاءته في الدنيا. ومن امتنع دخل النار وعذب فيها، وهو الذي كان يكذب الرسل لو جاءته في الدنيا. لأن الله يعلم ما كانوا عاملين لو جاءتهم الرسل.
وإنما قلنا: إن هذا هو التحقيق في هذه المسألة لأمرين:
الأول ـ أن هذا ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وثبوته عنه نص في محل النزاع. فلا وجه للنزاع ألبتة مع ذلك.
قال الحافظ ابن كثير رحمه الله تعالى في تفسير هذه الآية التي نحن بصددها، بعد أن ساق الأحاديث الكثيرة الدالة على عذرهم بالفترة وامتحانهم يوم القيامة، رادا على ابن عبد البر تضعيف أحاديث عذرهم وامتحانهم، بأن الآخرة دار جزاء لا عمل، وأن التكليف بدخول النار تكليف بما لا يطاق وهو لا يمكن ـ ما نصه:
والجواب عما قال: أن أحاديث هذا الباب منها ما هو صحيح كما قد نص على ذلك كثير من أئمة العلماء، ومنها ما هو حسن، ومنها ما هو ضيف يتقوى بالصحيح والحسن. وإذا كانت أحاديث الباب الواحد متصلة متعاضدة على هذا النمط، أفادت الحجة عند الناظر فيها. وأما قوله: إن الدار الآخرة دار جزاء، فلا شك أنها دار جزاء، ولا ينافي التكليف في عرصاتها قبل دخول الجنة أو النار. كما حكاه الشيخ أبو الحسن الأشعري عن مذهب أهل السنة والجماعة من امتحان الأطفال، وقد قال تعالى: {يَوْمَ يُكْشَفُ عَن سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلَا يَسْتَطِيعُونَ}.
وقد ثبت في الصحاح وغيرها: "أن المؤمنين يسجدون لله يوم القيامة، وأن المنافق لا يستطيع ذلك، ويعود ظهره كالصفيحة الواحدة طبقًا واحدًا، كلما أراد السجود خر لقفاه". وفي الصحيحين في الرجل الذي يكون آخر أهل النار خروجًا منها: "أن الله يأخذ عهوده ومواثيقه ألا يسأل غير ما هو فيه، ويتكرر ذلك منه، ويقول الله تعالى: يا بن آدم، ما أعذرك? ثم يأذن له في دخول الجنة" وأما قوله: فكيف يكلفهم الله دخول النار، وليس ذلك في وسعهم؟ فليس هذا بمانع من صحة الحديث. "فإن الله يأمر العباد يوم القيامة بالجواز على الصراط وهو جسر على متن جهنم أحد من السيف وأدق من الشعر، ويمر المؤمنون عليه بحسب أعمالهم، كالبرق، وكالريح، وكأجاويد الخيل والركاب. ومنهم الساعي، ومنهم الماشي، ومنهم من يحبو حبوًا، ومنهم المكدوس على وجهه في النار" وليس ما ورد في أولئك بأعظم من هذا، بل هذا أطم وأعظم?
وأيضًا ـ فقد ثبتت السنة بأن الدجال يكون معه جنة ونار، وقد أمر الشارع المؤمنين الذين يدركونه أن يشرب أحدهم من الذي يرى أنه نار فإنه يكون عليه بردًا وسلامًا. فهذا نظير ذلك.
وأيضًا ـ فإن الله تعالى أمر بني إسرائيل أن يقتلوا أنفسهم. فقتل بعضهم بعضًا حتى قتلوا فيما قيل في غداة واحدة سبعين ألفًا، يقتل الرجل أباه وأخاه، وهم في عماية غمامة أرسلها الله عليهم. وذلك عقوبة لهم على عبادة العجل. وهذا أيضًا شاق على النفوس جدًا لا يتقاصر عما ورد في الحديث المذكور. والله أعلم. انتهى كلام ابن كثير بلفظه.
وقال ابن كثير رحمه الله تعالى أيضًا قبل هذا الكلام بقليل ما نصه:
ومنهم من ذهب إلى أنهم يمتحنون يوم القيامة في عرصات المحشر. فمن أطاع دخل الجنة، وانكشف علم الله فيه بسابق السعادة. ومن عصى دخل النار داخرًا، وانكشف علم الله فيه بسابق الشقاوة.
وهذا القول يجمع بين الأدلة كلها، وقد صرحت به الأحاديث المتقدمة المتعاضدة، الشاهد بعضها لبعض.
وهذا القول هو الذي حكاه الشيخ أبو الحسن علي بن إسماعيل الأشعري عن أهل السنة والجماعة، وهو الذي نصره الحافظ أبو بكر البيهقي في كتاب (الاعتقاد) وكذلك غيره من محققي العلماء والحفاظ والنقاد. انتهى محل الغرض من كلام ابن كثير رحمه الله تعالى، وهو واضح جدًا فيما ذكرنا.
الأمر الثاني ـ أن الجمع بين الأدلة واجب متى ما أمكن بلا خلاف. لأن إعمال الدليلين أولى من إلغاء أحدهما. ولا وجه للجمع بين الأدلة إلا هذا القول بالعذر والامتحان. فمن دخل النار فهو الذي لم يمتثل ما أمر به عند ذلك الامتحان، ويتفق بذلك جميع الأدلة، والعلم عند الله تعالى.
ولا يخفى أن مثل قول ابن عبد البر رحمه الله تعالى: إن الآخرة دار جزاء لا دار عمل ـ لا يصح أن ترد به النصوص الصحيحة الثابتة عن النَّبي صلى الله عليه وسلم. كما أوضحناه في كتابنا (دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب).
تفسير أضواء البيان للشيخ محمد الأمين الشنقيطي.
www.sahab.net